سيادة المبدأ الليبرالي أم الإسلامي؟ (نموذج تطبيقي)
|
بسم الله الرحمن الرحيم
في الحلقة الأخيرة من حوار سيادة الأمة والشريعة تكرر هذا السؤال كثيراً: هل نسلك في تحكيم الشريعة مسار التعاقد السلمي، أم التغلب؟ أستأذنكم أن نسحب هذا السؤال إلى باب المدخل الذي تكلمنا عنه بالأمس، فنجعله مثالاً تطبيقاً له. المدخل يقول: ليس هناك إرادة مطلقة للأمة، لا يوجد إرادة مفتوحة للأكثرية، الإرادة في كل النظم المعاصرة مقيدة بفلسفة أعلى منها، ليبرالية أو اشتراكية أو إسلامية أو غيرها. فالنظم السياسية المعاصرة تضع قائمة طويلة من الحقوق والمفاهيم ملزمة للأكثرية، فإرادة المبدأ الليبرالي هو المسيطر هنا، وهي التي تنازع إرادة الشريعة، وأما إرادة الأمة فهي مقيدة على كل حال بمنظومة أعلى منها. فالنزاع إذن ليس بين سيادة الأمة والشريعة، بل بين سيادة المبدأ الليبرالي وسيادة المبدأ الإسلامي، فأيهما له الحق بأن يكون قيداً ومنظومة عليا للأمة؟ نأتي على سؤال: هل نحكم الشريعة بالعقد السلمي أو بالتغلب؟ ما هو العقد السلمي؟ هل عليه قيود؟ أم هو عقد مفتوح يجتمع الناس فيضعون ما يريدون ويشتهون وبإرادة حرة مفتوحة؟ طبعاً، عليه قيود كثيرة، وثم مفاهيم وأعراف والتزامات قانونية طويلة جداً لا يمكن أن يتجاوزها هذا العقد، بل إن عملية العقد هذه هي صورة خيالية، وأما الواقع فأنه ليس إلا تصويت للناس في نظام سياسي محدد ومفصل، وليس لهم إلا لزوم هذه الطريقة، ولا يمكن للناس أن يفكروا – مجرد تفكير – في مناقشة أو منازعة هذا الواقع. فلا يمكن أن تزيل هذه المفاهيم أو تضيقها أو تصوغ شيئاً جديداً يخالفها عبر تداول سلمي، لأنها هي أساسات العقد، ولو تم انتهاك شيء من هذه المفاهيم فيجب إرجاعه ولو بالقوة والعنف لأنه حق طبيعي للشعوب لا يجوز المساس به. حسناً، لماذا لا تكون أحكام الإسلام القطعية ضمن هذه القيود؟ لماذا لا تكون أحكام الإسلام الخالدة، التي نؤمن أنها هي العدل والخير والرحمة، وهي التي كانت حاكماً فعلياً طيلة قرون طويلة، وهذه بلادها وأهلها؟ الجواب، لأن العقد الليبرالي المعاصر لا يدخلها ضمن العقد السلمي. فلو قال شخص: لنأت بالشريعة ونضعها ضمن العقد. سيقال: هذا تغلب ولا يجوز لك أن تفتات على حق الأمة! لماذا كان تغلباً؟ لماذا لم يكن هذا التصرف تصرفاً سلمياً؟ لماذا نقبل حدوداً كثيرة تقيد العقد ولا يمكن المساس بها ، ولا تكون الشريعة ضمنها؟ لماذا هناك مبادئ فوق دستورية، لا يصوت عليها ولا يمكن أن يجري عليها أي تغيير، وأما الشريعة فلا يمكن لها ذلك وليس هو من حقها؟ بكل بساطة: لأن العقد مقيد ومؤطر بمفاهيم ليبرالية، فإذا فكرنا من داخل هذا العقل سنقول تقييد إرادة الناس بالشريعة هو عنف؟ ولا يمكن تحقيقه ولو بطريقة سلمية إلا عبر طريق واحد هو التصويت والانتخابات والإعلام وما يترتب عليه من منظومة طويلة. فلو قلت: هل ممكن للناس في حال العقد أن يتفقوا على حرمان الأقلية من جزء يسير من الحقوق؟ سيصيح في وجهك لا، ولا يمكن، ولا يحق لك، وليس هو من ضمن العقد، والعقد لو قام به فهو عقد جائر. أها، أين ذهبت إذن تلك الأسئلة التي كانت توضع في وجه حكم الشريعة؟ لماذا لم يكن إدراج هذه المادة تغلباً؟ لماذا لا يجري عليها تداول سلمي لها كما يجري على الشريعة؟ من الذين سلب الأمة من حقها واستطاع أن يفرض عليها أن لا تفكر – مجرد تفكير – في مناقشة هذه القضية. أرأيتم الآن: فسؤال: مسار العنف، ومسار التغلب، منطلق أساساً من محددات ليبرالية، فسَّرت لك ما هو مسار السلم، وفسَّرت لك ما هو مسار التغلب، وصارت تحدد لك ما يجب عليك أن تفعله، وما لا تفعله. فلأن الشريعة لم تدخل ضمن القيود فليس لها إلا مسار السلم، ولا يحق لها القوة، ولو جاءت بغيرها فهو تغلب مرفوض، بل لا يمكن أن تطبق الشريعة إلا عبر هذه الطريقة، وأي طريقة حكمت بها الشريعة بغيرها فهو استبداد وتغلب في الحاضر والماضي والمستقبل. وأما المنظومة الليبرالية فهي مقيدة للعقد ولا يقول أحد إن ذلك تغلب، ولا أن أخذه بالقوة تغلب، لأنه حق طبيعي. فصورة المسألة أن سيادة الأمة ليس لها علاقة بالموضوع، والنزاع ليس مع سيادة الأمة. الإشكال في السيادة التي تقيد الأمة وتوجهها وتعلو عليها، هل يكون هو المبدأ الليبرالي، وبالتالي فالعقد لا يمكن أن يتجاوزه، ولو أخذ منها فيجب إعادته ولو بالقوة، وأما الشريعة فشأنها شأن أي منظومة فكرية أخرى، إن حازت الأكثرية حكمت لأن الأكثرية أعطتها الشرعية، وإن لم تحز فلا شرعية لها، وإن ارتفعت دستورياً فيمكن أن تنخفض، والشرعية والطاعة والحكم والخضوع لهذا النظام الذي رفضها وأقصاها، فحقيقة هذا القول أن ثم نظاماً أعلى من نظام الشريعة لا بد أن تمر الشريعة من خلاله، فتقبل وترفض وتقيد بحسب هذا النظام. بل وحتى لو حكم بالشريعة من خلال هذا الإطار فإنه لن يحكم بها إلا حسب شروط ومفاهيم من وضع لك هذا الإطار، لهذا تحكم الشريعة ويمكن أن تسقط، فهل من تحكيم الشريعة أن تجعل إسقاطها مشروعاً وممكناً وتجتمع له الدوافع وتهيأ له الظروف! أو تكون السيادة للمبدأ الإسلامي، الذي يجعل أحكام الإسلام إطاراً كلياً لا يتجاوز، وللناس حرية واسعة في اختيار السلطة والنظام والقوانين ومراقبتها ومحاسبتها وكافة الضمانات السياسية والقانونية المعاصرة، مع ضرورة الاستفادة من كافة الوسائل والأدوات التي تحفظ الحقوق والعدل وتمنع الجور والتعدي، فالنزاع ليس في هذه الأدوات، إنما في الإطار الكلي الذي يقصي الشريعة. فهنا محل الخلاف. السيادة لأي المبادئ؟ وأما سيادة الأمة فهي مقيدة على كل حال. وفي السؤال ثغرات عدة، لكن المقصود هنا إظهار المنظومة المستترة، وأن الإشكال ليس في طريق السلم أو العنف، بل في الإطار الكلي الحاكم الذي صار يحدد لنا أين يجب أن تكون الشريعة! يس هذا الموضوع ترفاً ولا هامشياً، هذه تصورات ومفاهيم شرعية ، الخلل فيها يتبعه قائمة طويلة من التأويلات والتحريفات للحريات والجهاد والحدود والمشروعية وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء والفتوحات وغيرها، فهذه الفكرة منتزعة من سياق ثقافي مختلف فالقبول بها لن يستقيم في الفكر إلا بعد تكسير متواصل لمفاهيم ونصوص شرعية عدة ترفض هذه المفاهيم الجديدة. وتبقى فكرة نظرية لا تصلح واقعاً، ولا تحفظ شريعة. |
الثلاثاء، 12 نوفمبر 2019
سيادة الشريعة .. ( الحد الفاصل بين الإسلام والعلمانية )
سيادة الشريعة .. ( الحد الفاصل بين الإسلام والعلمانية )
|
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فإن من أعظم محكمات الإيمان التسليم والخضوع ( علماً وعملاً ) لشريعة الإسلام في المنشط والمكره، والرضا والغضب، وعدم تقديم أي أمر من الأمور على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الحجرات:1) ومعنى ذلك أنه لا يقدم على الشريعة أي أمر من الأمور مهما رآه صاحبه أمراً حسناً سواءً كان عقلاً، أو حرية، او أمة أو غير ذلك. والإقرار بهيمنة الشريعة وحاكميتها وتقديمها والقبول بها قولاً وعملاً دون أي شرط أو استثناء هو قاعدة الايمان وأصله كما قال تعالى: )فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) ومع وضوح هذه الحقيقة الشرعية وانعقاد الاجماع عليها فقد حاولت التيارات العلمانية والتنويرية الانتقاص من ذلك بجعل السيادة للبشر، وعدم القبول بالشريعة حاكمة بالفعل في حياة الناس إلا بشرط التصويت عليها لتنال الشرعية في التحكيم، ويرون التفريق بين الإيمان بالشريعة اعتقاداً قلبياً، وتحكيمها واقعاً عملياً، وهذا هو الفصل العلماني الشهير بين الدين القلبي الإيماني، والدين العملي الحاكم والمهيمن على حياة الناس، وهي فكرة خارجة عن النسق الاسلامي ومخالفة لإجماع المسلمين ولم تعرف إلا بعد أزمنة الاستعمار على يد العلمانيين. ولا يتعارض - حسب التصور العلماني - الاجتماع بين الاعتقاد الشخصي بالحلال والحرام، والتشريع المبدل لأحكام الشريعة، لأن الأول اختيار شخصي، والثاني حق من حقوق الأمة، وعندما تختار الأمة الشريعة فإن شرعية تطبيقها وتحكيمها لم يأت من كونها ربانية الأمر والنهي، وإنما لكونها تحققت فيها السيادة المعتبرة، وهي سيادة الأمة. وهذا التصور في غاية التناقض فما هي فائدة اعتقاد الحلال والحرام إذا أقرّ بشرعية تبديله في حال حصول ذلك من الأمة ؟، هذا اعتقاد لا قيمة له لأنه معارض باعتقاد آخر وهو شرعية التبديل إذا تم من خلال الأمة !!. مفهوم السيادة السيادة في اللغة والاصطلاح مرجعها واحد فهي مأخوذة من السيد وهو المتصرف المطلق، وصاحب الأمر والنهي والذي تعود اليه كافة السلطات الثلاثة، ومنها سلطة التشريع، وقد ظهرت في الفكر الغربي لدى المدرسة القانونية الفرنسية المعبرة عن العقد الاجتماعي كما يراه جان جاك روسو، والسيادة هي المعبرة عن الإرادة العامة عند روسو، وهي السلطة العليا التي لا توجد فوقها ولا تحكمها ولا تهيمن عليها أي سلطة مهما كانت. و" سيادة الأمة " في الفكر السياسي المعاصر هو التعبير القانوني للنظام الديمقراطي، فهو الوجه القانونيوالمبرر العقلاني لاستحقاق السلطات، وهو يعطي الأمة أو الشعب السلطة العليا في التشريع، فلا قانون إلا ما اقرته الأمة، وما اتفقت عليه الأمة فهو القانون الشرعي الذي يجب الاذعان له لأنه نابع من سيادة الأمة واستحقاقها للتشريع المطلق. وعليه فلو أحلت الأمة حراماً او حرمت حلالاً فهذا ما يجب القبول به، ولا يجوز الخروج عن سيادتها، وبهذا تكون الامة هي صاحبة التشريع والحاكمية لامتلاكها السيادة المطلقة، وبغض النظر عن نوع الاختيار الذي تختاره الأمة، ففكرة السيادة تجعل المرجعية العليا للامة وليس للإسلام والشريعة الربانية. وبهذا يتبين ان سيادة الامة تجاوزت اختيار الافراد للحكم كآلية من خلال الانتخاب الى ان اصبحت السلطة العليا التي بيدها السيادة المطلقة ومنها تشريع القوانين، وهذا هو جوهر الفلسفة الديمقراطية التي كان يرفضها بعض التنويريين قديماًلأنها تعطي حق التشريع لغير الله تعالى. ومن الخداع والمغالطة تسمية اختيار الناس لمن يحكمهم من خلال الانتخابات " سيادة "، وتقديمها على الشريعة، ثم حكاية كلام من يبيحها على أنه يرى " السيادة للأمة " !!، لأنه يمكن أن يتم اختيار من يحكمهم مع كون الشريعة هي صاحبة السيادة والهيمنة والحاكمية، فالأول عمل اجرائي تنظيمي مجرد له صور مختلفة منها الصحيح ومنها الزائف، أما منازعة سيادة الشريعة وحاكميتها فهو مناقض لأصل الايمان. كما ان من المغالطة قول القائل " سيادة الامة بمرجعية الشريعة "، فالسيادة هي المرجعية العليا للسلطات الثلاثة ( التشريعية، والقضائية، والتنفيذية )، فكيف تكون سيادة بمرجعية وهي ذاتها المرجعية ؟! وبهذا يتميز من يجعل المرجعية للشريعة ممن يجعل المرجعية للأمة. ومن يجعل السيادة للأمة لا يمانع من الإيمان القلبي والنظري بأحكام الشريعة، ولكنها لا تكون نافذة الا من خلال مرجعية الأمة، وهو يرى أن من حق الامة ان تختار ما تشاء، فهذا حقها وهذه حريتها، وعليه فلو اختارت الامة اباحة المحرمات الظاهرة، وعدم الالتزام بالواجبات الظاهرة فهو حق مشروع لها لأنها صاحبة السيادة، وهذا التأسيس لاستحقاق الامة السيادة المطلقة هو الحكم بالطاغوت لأنه استحلال للمحرمات الظاهرة، وترك الواجبات الظاهرة حتى لو لم يفعلها، وهذا هو الحكم بغير ما انزل الله، واستحلال القوانين الوضعية، وهي الاشكالية الكبرى بين الاسلام والعلمانية في العصر الحديث. يقول الدكتور عبدالرزاق السنهوري ( وهو أحد كبار القانونيين العرب، وغير محسوب على التيار السلفي ):" روح التشريع الإسلامي يفترض أن السيادة بمعنى السلطة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فهو وحده صاحب السيادة العليا، ومالك الملك وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في كل المجتمع، ومصدرها والتعبير عنها هو كلام الله المنزل في القرآن، وسنة رسوله المعصوم الملهم ثم إجماع الأمة" ( فقه الخلافة وتطورها ص 70 ) سيادة الشريعة وهيمنتها أصل الإسلام تأمل قول الله تعالى )وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49) فلو قارنا بين هذه الآية وفكرة تقديم سيادة الأمة على تحكيم الشريعة فإننا سنجد أن دعوى سيادة الامة المقابلة للشريعة هي المعبر عنها في قوله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) وقوله عنهم (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) وهذا يدل على ان من قدم اهواء الناس على شريعة رب العالمين فقد عرض إيمانه للتلف وإسلامه للبطلان. فالمناقض لأصل الإسلام أن تكون الشريعة مرهونة بأهواء الناس قبولاًأو رداً، وتكون آراء الناس هي الحاكمة بشرعية النظام الذي يحكمهم، ويقضي بينهم. وحاكمية الشريعة و القبول بالإسلام والتسليم له لا يجوز ان تكون مرتهنة لأحد بل وجوب العمل بها متقدم على كافة الحقوق الفطرية والانسانية، وحاجة الانسان إليها أكبر من حاجته إلى الطعام والشراب والهواء. وحقيقة الاسلام الاستسلام، والقبول، والتسليم لخبر الله وأمره، ومن جعل تحكيم شريعة الله مشروط بالأمة فهو كمن جعل تصديق خبره مشروط بالأمة، وهذا التعليق يدل على عدم التسليم والتصديق للأمر والخبر. يقول أبو حامد الغزالي في المستصفى: " وأما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم ". فالغزالي هنا لا يتحدث عن اعتقاد وجوب الواجبات وتحريم المحرمات بل يتحدث عن " نفوذ الحكم " وهو " تطبيق " و " تحكيم " الشريعة، وهذا أمر متقرر عند كافة علماء الإسلام بكل طوائفهم وفرقهم. يقول ابن تيمية: " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً ومرتدا باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله – على أحد القولين – " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله " ( الفتاوى 3/ 267 )، والنصوص في هذا كثيرة جدا. وقد أجمع العلماء على كفر من سوغ وأجاز الخروج على الشرع، ومن قواعد الإسلام الكبرى أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، واتفق العلماء على أنه لا طاعة للوالدين إذا كان في ذلك مخالفة لشريعة الله فكيف يقال بجواز أن يختار الناس ما يحكمون به ولو مخالفاً للشرع حتى ولو كان ذلك أمراً مفترضاً، فالافتراض هو تجويز الشيء إذا وجد وليس بالضرورة أن يوجد. وقد أجمع علماء الإسلام على أن الشورى لا تكون إلا في المباحات، أما الواجبات والمحرمات فلا شورى ولا اختيار فيها، وهذا هو مقتضى العبودية كما قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )(الأحزاب: من الآية36 ) . فكيف تجعل الشريعة كلها بكل واجباتها ومحرماتها لا تحكم حتى تجاز من قبل الأمة، وإذا لم تجز فلا يجوز تطبيقها وتحكيمها ؟! يقول ابن كثير: " والآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هنا ولا رأي ولا قول " سيادة الأمة بين العلمانيين والتنويريين لم يعد هناك فرق جوهري بين الفكر العلماني والتنويري حول الموقف من سيادة الشريعة، فالأمر المحوري بينهما أن السيادة ترجع للامة وليست للشريعة، وهي السلطة العليا التي تعود اليها جميع السلطات الثلاث، وبهذا فهي تملك حق التشريع، والجهة المخولة في إصدار القوانين سواءً وافقة الشرع أم خالفته، وهذا يشمل التشريعات الإدارية التنظيمية كما يشمل التشريعات القضائية التي تشمل التشريعات الجنائية والشخصية والمالية وكافة أنواع التشريعات التي تخص الحكم بين الناس، كما تشمل السياسات العامة التي تعود إليها كافة أنشطة الدولة .. وهذه التشريعات صاحب السلطة والسيادة فيها هو الله جل جلاله، وإعطاء الامة حق التشريع فيها هو الحكم بغير ما انزل الله، وهو التحاكمإلى الطاغوت، لأن الحكم لله تعالى، وتحقيقه من العبادة لله تعالى، يقول تعالى: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )(يوسف: من الآية40) ، ويقول تعالى: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59) ، وهذه النصوص هي في الحكم بين الناس، وليس في العقائد الإيمانية القلبية، وهي في التطبيق للشريعة وليس في اعتقاد الشريعة. وقد كان الخلاف مع التنويريين أول الأمر حول آليات الديمقراطية ومدى موافقتها للمقاصد الشرعية، ولكنهم تجاوزوا ذلك إلى المطابقة التامة للعلمانيين في جعل السيادة للأمة وهي الجهة العليا التي تعطي الشرعية للشريعة أو غيرها، وبهذا لم يعد هناك فرق بينهم وبين العلمانيين إلا في الاسم، وهذه نتيجة طبيعية لمن يجعل المفاهيم الوضعية حاكمة على الشريعة ثم يقوم بتحريف الشريعة لتتوافق معها، وهذا مخالف للمنهج الاسلامي الذي يجعل الشريعة هي الحاكمة، ثم يحكم من خلالها على المفاهيم الوضعية، كما انها نتيجة طبيعية لمن جعل زاده الثقافي دراسات العلمانيين العرب، بل يروجها ويبيعها وينصح بها باسم الانفتاح !! وقد هالني تمدح بعضهم وافتخاره بالانتقال الجديد في الخطاب التنويري من الكلام حول آليات الديمقراطية الى الجدل حول سيادة الشريعة، وظنه انهم احدثوا نقلة في الخطاب السلفي حسب زعمه، وما درى انها انتكاسة فكرية، وسقوط منهجي، وتحول خطير نحو العلمنة !! فأي فخر للانتقال الى الأسوأ، وأي مدح في الحط من سيادة الشريعة ؟!! وهذه المنهجية المنحرفة هي التي جعلت التنويريين ينطلقون من منطلق علماني في اغلب المفاهيم السياسية الجديدة كمفهوم المواطنة، والحرية، والطائفية وغيرها، ففي هذه المفاهيم وغيرها يتم شرحها بما يتطابق مع الفكر العلماني تماما، فالمواطنة هي التعامل مع المكونات المجتمعية على اساس وطني مصلحي وليس على اساس ديني، والحرية هي عدم المنع للاختيارات الشخصية للأفراد ولو كانت محرمات ظاهرة، ويحق للفرد ان يعبر عن رأيه ومعتقده ويدعو اليه ولو كان كفرا صريحا ( حرية المنافقين )، والطائفية هي التعامل مع التيارات الفكرية والفرق المخالفة للسنة من منطلق عقدي، وهذه المفاهيم المنحرفة يجمعها استبعاد المنطلق الديني، وتحجيم المنهج الاسلامي في التعامل الاجتماعي، وجعله اختيارا خاصا لا يتحرك في الحياة ويحكمها، وأخص مكونات الفكر الليبرالي العلماني نزع الالزام في الشريعة الربانية، ولهذا فاخصر تعريف لليبرالية ( منع المنع )، فماذا ابقى هذا التيارللفكر العلماني والليبرالي؟! الامة بين اختيار الحاكم والسيادة المطلقة يصر بعض التنويريين ممن لم يحدد خياره العلماني بعد على الخلط بين السيادة للأمة المتضمنة لحق التشريع المطلق كما قدمناه، وبين رفض الاستبداد والتغلب والتوريث، فيجعل من يرفض ارجاع تحكيم الشريعة الى موافقة الامة، وعدم استحقاقها للهيمنة على المجتمع الا بعد اجازتها من الامة .. يجعل ذلك في صف الاستبداد والتغلب والتوريث، وهذه مغالطة لان من يجعل اختيار الحاكم حق للامة يجعل - ايضا - الحاكم والامة التي اختارته تحت سيادة الشريعة وحكمها، فالحاكم وكيل ونائب عن الامة في اقامة الدين وتحكيم الشريعة في الناس، ومعيار تحقيقه لمقتضى الوكالة هو التزامه بحكم الشرع في شؤونهم العامة والخاصة، واذا لم يفعل ذلك يجب عزله وفسخ حكمه، وهذه قضية في غاية الوضوح في المنهج الاسلامي، وهي الفارق المنهجي بين دور الامة في المنهج الاسلامي والمنهج العلماني. |
مصباح السعادة (الرضا)
مصباح السعادة (الرضا)
| ||||||||
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، نسأله الرضا بعد القضاء، والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة، والقناعة بما قسم لنا، وأُصلي وأُسلم على محمد المصطفى، والرسول المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
وبعد...
فإن طرق الوصول إلى الله تعالى كثيرة كما قيل :( الطرق إلى الحق بعدد أنفاس الخلق)، والعبد يبحث عن أقربها وصولا، وأسرعها إلى رضاه سبحانه، ومن هذه الطرق أعمال القلوب، فهي أفضل من أعمال الجوارح، ومن أجلّ أعمال القلوب وأسرعها وصولاً إلى البارئ سبحانه: الرضا.
إنه مصباحٌ يُضيء لك السعادة ما حييت، بل هو نسائم تهبّ على قلبك؛ فتملأه سكينةً وسروراً وراحة.
الرضا "أعلى درجات التوكل، وباب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين".[ مدارج السّالكين، ج2، ص172].
الرضا ثمرة من ثمار المحبة وهو من أعلى مقامات المقربين.
الرضا تلك العبادة القلبية التي نحن أحوج إليها؛ لعظم البلاء والمصائب الّتي حلت بنا، فكلّ يومٍ نسمع من الأنباء والأخبار ما تقشعرّ له الأبدان، وتشيب لأجله رّؤوس الولدان.
الراحة هي الهدف التي نسعى إليها في الدنيا، والسعادة هي الغاية المأمولة من الحياة بأسرها، والرضا هو السبيل إليهما معًا..
الرضا عبادةٌ عظيمة، ورزقٌ لا يُدركه إلا من أسلمَ قلبه بالكلية لله تعالى، وأصبح موقنا أن ما يأتيه من الله ـ إن كرهه وإن أحبه ـ.
الرضا نعمة روحية جزيلة هيهات أن يصل إليها جاحد بالله، أوشاك فيه، أو مرتاب في جزاء الآخرة، إنما يصل إليها من قوي إيمانه بالله، وحسن اتصاله به.
تعريف الرضا:
جاء في تعريف الرضا بالقضاء أقوالٌ كثيرة، منها: «الرضا: ارتفاع الجزع في أي حُكمٍ كان» [مدارج السالكين 2/177 ] .
وقيل: «سكون القلب تحت مجاري الأحكام» [المرجع السابق نفس الصفحة ] .
وقال آخر الرضا: «سرور القلب بمُر القضاء»[التعريفات للجرجاني 2/148، وانظر: التعاريف للمناوي 2/366 ].
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «الرضا: أن لا تُرضي الناس بسخط الله، ولا تحمد أحداً على رزق الله، ولا تلم أحداً على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، والله بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط» [أخرجه البيهقي في شعب الإيمان للبيهقي 1/222، هكذا من قول ابن مسعود، وفي الأربعين الصغرى عنه مرفوعاً (2/99)] .
وقيل: الرضا: «ألاّ يتمنى العبد خلاف حاله» [الرضا لابن أبي الدنيا ص 34] .
ومما سبق من هذه الأقوال جميعاً، وبما يوافق نصوص كتاب الله، وسنة رسوله يمكن تعريف الرضا بأنه : «التسليم بالقضاء، والقناعة بما قسم، قل أو كثر، والسكون إلى الله، وحمده على ما قضاه، وترك الندم أو الحسرة أو الحزن على ما فات من رزق، وعدم التسخط، أو الاعتراض على ما وقع من قضاء الله، وحب أمر الله، والعمل به، وترك معاصيه، واجتنابها، والغنى عما في أيدي الناس، واليقين بأن الله المعطي، المانع وحده لا شريك له».
الرضا يتحقق بثلاث:
يذكر ابن القيِّم رحمه الله تعالى، أنَّ الرِّضا عن الله تعالى يتحقَّق بثلاثة أمور: «باستواء الحالات عند العَبد، وسقوطِ الخصومة مع الخَلق، والخلاص من المسألة والإلحاح...؛ فإنَّ الرِّضا الموافق تستَوي عنده الحالات - من النِّعمة والبليَّة - في رِضاه بحسنِ اختيار الله له» [مدارج السالكين، ج2، ص198 - 199].
منزلة الرضا: في القرآن والسنة:
لقد أثنى المولى -جل وعلا- على أهل الرضا في مواطن كثيرة وندبهم إليه، وجعله من صفات أهل الإيمان فهم يسعون لنيل رضا ربهم في كل عملٍ صالح يقْدمون عليه قال -تبارك وتعالى-: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: 207].
ورضا المولى جل وعلا هو أقصى ما يمتناه أهل الإيمان؛ فقد قال سبحانه وتعالى عن سليمان عليه السلام وقد أُعطي من الملك ما أُعطي: ﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19].
ومنزلة الرضا منزلة عظيمة جعلها المولى -جل وعلا- فوق جنات عدن فقال -عز وجل-: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:72 ].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو في صلاته أن يعطيه الله الرضا بعد القضاء، كما في حديث عمار ابن ياسر - رضي الله عنه -: «وأسألك الرضا بعد القضاء» [أخرجه الترمذي في كتاب الزهد ... ، باب ما جاء في الصبر على البلاء، وقال :{ وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه } ، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الفتن ، باب الصبر على البلاء ، وقال الألباني : حسن ] .
وجاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي وحسّنه الألباني عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «....إن الله - تعالى - إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط».
الرضا يذوق معه المؤمن طعم الإيمان وحلاوته، وهو أيضا علامة على صحة الإيمان؛ ومصداق ذلك ما جاء عن العباس بن عبد المطلب-رضي الله عنه- في الحديث الصحيح من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا ». [أخرجه مسلم: 1/ 62، برقم: 34 ].
وجاء في شرح النووي على مسلم: "معنى الحديث لم يطلب غير الله تعالى، ولم يسع في غير طريق الإسلام، ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا شك في أن من كانت هذه صفته فقد خلُصت حلاوة الإيمان إلى قلبه وذاق طعمه ". [شرح النووي على مسلم: 2/ 2 ].
و الرضا يكون سبباً من أسباب غفران الذنوب فقد جاء في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا، وبمحمد رسولا، وبالإسلام دينا غُفر له ذنبه» [أخرجه مسلم: 1/ 290، برقم: 386.].
والرضا بما عند الله تعالى يكفيك ما عند الناس، فعلى المسلم أن يلتمس رضى المولى جل وعلا تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» [أخرجه الترمذي: 4/ 609، برقم: 2414، وصحيح ابن حبان: 1/ 510، برقم: 276، وقال الألباني: صحيح لغيرة، انظر صحيح الترغيب والترهيب: 2/ 271، برقم: 2250 ].
أقسام الرضا:
الرضا ثلاثة أقسام: رضا العوام بما قسمه الله وأعطاه، ورضا الخواص بما قدّره وقضاه، ورضا خواص الخواص الرضا به سبحانه بدلاً من كل ما سواه.
وقال محمد بن خفيف: الرضا على قسمين: رضا به، ورضاه عنه؛ فالرضا به أن يرضاه مدبراً، والرضا عنه فيما يقضى[الرسالة القشيرية 2/424 ].
ولما سُئل أحدهم عن الرضا قال: «الرضا بالحق، والرضا عن الحق، والرضا له:الرضا به: مدبراً ومختاراً، والرضا عنه: قاسماً ومعطياً، والرضا له: إلهاً ورباً» [شعب الإيمان للبيهقي 1/228 ].
وقد تضمن الحديث السابق الذكر «ذاق طعم الإيمان... » أربعة أنواع من الرضا: الرضا بربوبيته سبحانه، وألوهيته، والرضا برسوله، والانقياد له، والرضا بدينه، والتسليم له، ومن اجتمعت له هذه الأربعة : فهو الصديق حقا .
فالرضا بإلهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده ، وخوفه ، ورجائه ، والإنابة إليه ، والتبتل إليه ، وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليه . فعل الراضي بمحبوبه كل الرضا . وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له .
والرضا بربوبيته : يتضمن الرضا بتدبيره لعبده . ويتضمن إفراده بالتوكل عليه . والاستعانة به ، والثقة به ، والاعتماد عليه . وأن يكون راضيا بكل ما يفعل به .
فالأول : يتضمن رضاه بما يؤمر به . والثاني : يتضمن رضاه بما يقدر عليه . وأما الرضا بنبيه رسولا : فيتضمن كمال الانقياد له . والتسليم المطلق إليه ، بحيث يكون أولى به من نفسه .
وأما الرضا بدينه : فإذا قال، أو حكم ، أو أمر ، أو نهى : رضي كل الرضا . ولم يبق في قلبه حرج من حكمه . وسلم له تسليما.
الفرق بين الرضا والصبر:
الصَّبر: كفُّ النَّفس وحبسُها عن التسخط مع وجود الألم، وتمنِّي زوال ذلك، وكفُّ الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع.
والرضا: انشراح الصدر وسعته بالقضاء، وترك تمنِّي زوال ذلك المؤلم، وإنْ وجدَ الإحساسُ بالألم.
ثمرات الرضا بالقضاء والقدر:
كم من غني لم يفارق الشقاء جبينه، ولم يجد في ماله طعم الغنى الحقيقي، كم من صاحب جاهٍ ومنزلةٍ رفيعة لم يذق طعم الأنس والاستقرار، وكم من صاحب أهلٍ وولدٍ يتقلّب على رمضاءِ الحُزن والقلق والاضطراب النفسي وعدم الرضا بالحال، بينما نجد شخصاً لم يحظ بشيء من ذلكم البتة، لكنه يحمل صدراً واسعا، ويرفل في سعادة غامرة ، ما السبب في هذا التفاوت؟ إنها نعمة الرضا.
منْ ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ اللهُ صدرهُ غِنىً وأمْناً وقناعةً، وفرَّغ قلبه لمحبَّتِه والإنابِة إليه، والتَّوكُّلِ عليه . ومنْ فاته حظُّه من الرِّضا، امتلأ قلبُه بضدِّ ذلك، واشتغل عمَّا فيه سعادتُه وفلاحُه .فالرِّضا يُفرِّغُ القلب للهِ، والسخطُ يفرِّغُ القلب من اللهِ، ولا عيش لساخِطٍ، ولا قرار لناقِمٍ، فهو في أمر مريجٍ، يرى أنَّ رزقهُ ناقصٌ، وحظَّهُ باخِسٌ، وعطيَّتهُ زهيدةٌ، ومصائبهُ جمَّةٌ، فيرى أنه يستحقّ أكْثر منْ هذا، وأرفع وأجلَّ، لكنّ ربَّه – في نظرِهِ – بخسهُ وحَرَمَه ومنعَهُ وابتلاه ، وأضناهُ وأرهَقَه ، فكيف يأنسُ وكيف يرتاح، وكيف يحيا ؟ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ .[28 سورة محمد].
الرضا ينزِل على قلب العبد سكينةً تُصلح أحواله وتهدّئ باله، وتخبره أنّه هنيئاً لك بما أنت فيه مهما كان.
الرضا سلاحٌ فتاك يقضي على الجشع والطمع والسخط في النفس، ليحل محلها رضاً وطمأنينة وتسليم.
الرضا بالحال يجلب لصاحبه طمأنينة النفس وهدوء البال، ويشيع البهجة في حياته، فرحًا بكل قليل. أما السخط فما يزيد الإنسان إلا اضطرابًا دائمًا، وتمردًا وحقدًا وحسدًا، وكآبة وقد يصل إلى الجنون، أو الوسوسة، أو تعاطي المسكرات، على اختلاف مستوياتها، أو قتل النفس، أو الانتحار.
الساخط مهما تعددت عنده الخيرات، فهو دائما يريد المزيد، بل ويشعر داخل نفسه أنه لا يملك إلا القليل. ما أن يُصاب بالتافه من الأمر حتى تراه حرج الصدر، قلقاً؛ فتقض مضجعه، وتؤرق جفنه، وهي - وأكبر منها - لو وقعت لمن هو أقوى منه إيماناً ورضاً بالقضاء لم يلق لها بالاً، ولم تحرك منه نفساً، ولنام ملء جفونه رضيَّ البال، قرير العين، "والعبد إذا رَضِي عن ربِّه في جميع الحالات، استقرَّت قدمُه في مقام العبوديَّة، فلا يزيل التلوُّنَ عن العبد شيءٌ مثل الرِّضا"[مدارج السالكين ، ص 201].
الرضا ثمرة من ثمار الشكر، فصاحب السخط لا يشكر، فهو يشعر أنه مغبونٌ وحقّه منقوصٌ وحظّه مبخوسٌ! لأنه يرى أنه لا نعمة له أصلًا! السخط نتيجة كفران المنعم والنعم! الرضا نتيجة شكران المنعم والنعم.
الرضا يُخرجُ الهوى من القلبِ، فالراضي هواهُ تبعٌ لمرادِ ربِّه منه، أعني المراد الذي يحبُّه ربُّه ويرضاهُ، فلا يجتمعُ الرضا واتِّباعُ الهوى في القلبِ أبداً، وإنْ كان معهُ شُعبةٌ منْ هذا ، وشعبةٌ منْ هذا ، فهو للغالِب عليه منهما .يقول الشاعر: محمد مصطفى حمام :
رضاً برضا
الرضا طريق إلى الفوز برضوان الله تعالى، فالرضا في الدنيا تحت مجارى الأحكام، يورث الرضوان في الآخرة بما جرت به الأقلام.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "رِضاه عن ربِّه سبحانه وتعالى في جميع الحالات يُثمر رِضا ربِّه عنه؛ فإذا رَضِي عنه بالقليل من الرِّزق، رضي ربُّه عنه بالقليلِ من العمَل، وإذا رضِي عنه في جميعِ الحالات واستوَت عنده، وجَدَه أَسرع شيء إلى رِضاه إذا ترضَّاه وتملَّقه» [مدارج السالكين، ج2، ص200].
الرضا يفرّغ القلب، يصفّي الذهن للعبادة. . فالراضي في صلاته خالٍ قلبُه من الوساوس. . في الطاعة غير مشتّت الذهن. . فيستفيد من العبادة. .
كيف تكون راضياً:
الراضي يعلم يقينًا بأنَّ منْعَ الله تعالى عنه أي شيء هو عينُ العطاء، لأنه لا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو خِيرٌ له.
الراضي يعلم أن الخلق كلهم متساوون في العطاء والمنع، يُعطي شيء ويمنع شيء سبحانه، ولذلك ينظر إلى من هو أدنى منه في الدنيا، فيعود إلى الله شاكراً حامداً راضيا.
الراضي كلام الناس لن يؤذيَه نفسياً و لن يبالي مادام الله راضياً عنه.
الراضي يعلم أن رزقه مكتوب، وأنه لن يموت حتى يستوفي رزقه، ويدرك كذلك أن الله حسبه وكافيه ورازقه ، وأن العباد مهما حاولوا إيصال الرزق له، أو منعه عنه فلن يستطيعوا إلا بشيء قد كتبه الله، فينبعث بذلك إلى القناعة وعزة النفس، والإجمال في اطلب، وترك التكالب على الدنيا، والتحرر من رق المخلوقين ، وقطع الطمع مما في أيديهم، والتوجه بالقلب إلى رب العالمين ، وهذا أساس فلاحه ورأس نجاحه.
الراضي تصبح الآلام والشدائد عنده لذائذَ؛ لأنَّه يتعامل مع الأقدار الإلهية بلُغةِ الحب والرضا، لا بلُغةِ الاختبار والتحدي.
الراضي يبتعد عن الألفاظ التي تتضمَّن التسخط على الأقدار، يُكثر من الحمد والشكر و الاسترجاع: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ .
الراضي مع رضاه عن الله في حاله يعمل بالأسباب للارتقاء بحاله، والسعي نحو الكمالات في كل شيء.
الراضي صلته بالله قوية، يزداد من الطاعات والقربات؛ فتبث داخله الرضا والطمأنينة والسعادة .
الراضي يعلم أنه ﻣﺎ ﻣﻦ ﻣﺤﻨﺔ ﺗﺼﻴﺐ ﺍﻟﻤﺆﻣﻦ ﻣﻄﻠﻘﺎً ﺇﻻﻭﺭﺍﺀﻫﺎ ﻣﻨﺤﺔ، ﻭﻣﺎ ﻣﻦ ﺷِﺪﺓ تقع ﺑﺎﻟﻤﺆﻣﻦ ﺇﻻ ﻭﺭﺍﺀﻫﺎ ﺷَﺪﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ، ﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎﻓﻲ ﺍﻷﺻﻞ ﺩﺍﺭ ﺍﺑﺘﻼﺀ ﻻ ﺩﺍﺭ ﺍﺳﺘﻮﺍﺀ، ﻭﻣﻨﺰﻝ ﺗﺮﺡ ﻻ ﻣﻨﺰﻝ ﻓﺮﺡ، ﻓﻤﻦ ﻋﺮﻓﻬﺎ ﻟﻢ ﻳﻔﺮﺡ ﻟﺮﺧﺎﺀﻭﻟﻢ ﻳﺤﺰﻥ ﻟﺸﻘﺎﺀ، ﻷﻥ ﺍﻟﺮﺧﺎﺀ ﻣﺆﻗﺖ، ﻭﺍﻟﺸﻘﺎﺀ ﻣﺆﻗﺖ، ﻗﺪ ﺟﻌﻠﻬﺎ ﺍﻟﻠﻪ ﺩﺍﺭ ﺑﻠﻮﻯ. ﻭﻳﻮﻡﺗﻮﻃّﻦ ﻧﻔﺴه ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺩﺍﺭ ﺍﺑﺘﻼﺀ ﻻ يفاجأ ﺑﺎﻻﺑﺘﻼﺀ .
قال ابن عجيبة في تفسيره : "إذا عَلِمَ العبدُ أن الله كافٍ جميع عباده ، وثق بضمانه، فاستراح من تعبه ، وأزال الهموم والأكدار عن قلبه، فيدخل جنة الرضا والتسليم، ويهب عليه من روح الوصال وريحان الجمال نسيم، فيكتفي بالله ، ويقنع بعلم الله، ويثق بضمانه".[البحر المديد 5/320].
الراضي يكثر من قوله : «اللهمَّ إني أسألك نفسًا مطمئنةً تؤمِن بلقائك، وترضى بقضائك، وتَقنَع بعطائك»
أخي الكريم :
أخي الكريم: أحصي البركات والنعم التي أعطاها الله لك، وغيرك محروم منها، واكتبها واحدة واحدة، وستجد نفسك أكثر سعادة مما قبل.
مشكلتنا أننا نرى المتاعب والنواقص عندنا فنتذمر ولا نرى البركات والنعم التي وهبنا الله إياها.
قف وتأمل كم شخصاً تمنى لو أنه يملك مثل: سيارتك, بيتك, جوالك, شهادتك, وظيفتك. . إلخ؟
كم من الناس. . . . . يمشون حفاة وأنت تقود سيارة؟ !
كم من الناس. . . . . ينامون في الخلاء وأنت في بيتك؟ !
كم شخص. . . . يتمنى فرصة للتعليم وأنت تملك شهادة؟ !
كم عاطل. . عن العمل وأنت موظف؟
كم. . وكم. . وكم. . وكم. . ؟ !
ألم يحن الوقت لأن تقول: ربي إني راضٍ عنك فارض عني. يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك. . اللهم لك الحمد حتى ترضى، و لك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا. ! !
أخي الكريم: احمد ربك وارض به: فعسى تأخيرك عن سفر ..خير، وعسى حرمانك من زواج. . بركة، وعسى ردك عن وظيفة. . مصلحة، وعسى حرمانك من طفل. . خير، وصدق الله القائل: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]. لأنه يعلم وأنت لا تعلم. . فلا تتضايق لأي شيء يحدث لك. . لأنه بإذن الـلـه. . خير. . .
نحنُ بخير. . . . . مَا دُمنٱ نستطيع النوم، دُون مُسكنٱت، ولآ نَستيقظ عَلى صَوت جهاز طِبي مَوصُول بأجسادنا. . . الحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد لله حتى يبلغ الحمد منتهاه.
عبد الله: لا تنظر إلَى الْخلف، فَفِيه مَاض يزعِجك! ولَا تنظر إلَى الْأمام، فَفِيه مُسْتقبل يُقلقك! لَكن انظر إلَى الأعلـِْى، ، فَهناك رَب يُسعدك.
هل أنت راضٍ عن ربك؟ سؤال صعب أليس كذلك؟
دعني أُعيد صياغة السؤال: هل تعرف ما معنى أن تكون راضٍ عن ربك؟
الرضا عن الله:
هو التسليم والرضا بكل ما قسمه الله لك في هذه الحياة الدنيا من خير أو شر.
الرضا عن الله:
يعني إذا أصابك بلاء امتلأ قلبك يقيناً أن ربك أراد بك خيراً بهذا البلاء.
الرضا عن الله:
يعني أن تتوقف عن الشكوى للبشر وتفوض أمرك لله وتبث له شكواك.
الرضا عن الله:
يعني أن ترضى عن ربك في كل أحوالك: إذا أعطاك وإذا منعك، وإذا أغناك وإذا أخذ منك، وإذا كنت في صحة وإذا مرضت.
اعلم علم اليقين أن الله لا يبتليك إلا ليغفر ذنوبك أو ليرفع درجتك في الجنة، فارض عن ربك.
كلما أزداد العبد معرفةً بالله، كلما ازداد طمأنينة لأقداره وقضاءه، فتسكن روحه تحت مجاري الأقدار. ولا يأتي عدم الرضا إلا من قلة المعرفة بالله .
قال تعالى: ﴿ و َلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ. . . ﴾[يوسف:22]، العطايا والهبات الربانيّة، لا تأتيك في الوقت الذي تختاره أنت، بل في الوقت الذي يكون نفعُها أعظم لك فاصبر، و ثق بالله وأحسن ظنك به.
حين تخبر الله أنك رضيت بقدره. كن واثـقاً أنه سيرضيك بسعادة أكبر ذات يوم.
متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا؟
قيل ليحيى بن معاذ- رحمه الله -: متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا؟ فقال: "إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه، فيقول: يارب إن أعطيتني قبلت. وإن منعتني رضيت. وإن تركتني عبدت. وإن دعوتني أجبت".
ثلاثة من أعلام الرضا:
قال ذو النون: ثلاثة من أعلام الرضا: "ترك الاختيار قبل القضاء، وفقدان المرارة بعد القضاء. وهيجان الحب في حشو البلاء".
متى يكون العبد راضياً؟
سُئلت رابعة العدوية: متى يكون العبد راضياً؟ فقالت: إذا سرته المصيبة كما سرَّته النعمة.
وصايا لتكون راضيا:
1- اقنع بما قدَّره الله عزَّ وجلَّ لك، فإن كنت معافى في جسدك من الأمراض، وتعيش في أمانٍ دون خوف، وتملك قوت يومك فلا تبيت جوعان، وجب عليك -بهذه النعم الثلاث- أن تحمد الله حمد الراضين، ولتتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ©من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنَّما حيزت له الدنيا®[ رواه الترمذي وقال حديثٌ حسنٌ ].
2- أرح نفسك من الهم بعد التدبير: فالمؤمن الحقيقي لا يفرح بدنيا تصيبه ولا يحزن على فواتها، ولكنه يفرح بالطاعة وتحزنه المعصية. .
3- توقف عن المقارنة، وهذه طريقة أخرى يمكن أن تشعرك بالسعادة في حياتك، فيجب عليك التوقف عن التفكير في ضخامة منزل جارك، أو صديقك الذي لديه منصب كبير؛ لأنك لن تحصل على شيء إذا قارنت نفسك بالآخرين بدلاً من التفكير في حياتك.
4- المال ليس كل شيء في الحياة، إن المال بالتأكيد سوف يغير حياتك من الخارج، ولكن لن يشعرك بالسعادة من الداخل. فيمكنك أن تقود أجمل سيارة، وتمتلك أرقى الملابس، أو تحصل على منزل كبير وفخم، ولكن على المدى الطويل، لن يغير ذلك الكثير أو يجعلك تشعر بالرضا عن حياتك، فمجرد أن تملك ما يكفي من المال لدفع تكاليف احتياجاتك الأساسية وبعض المتعة كفيل بأن يشعرك بالرضا والسعادة.
5- تأمل في المكروبين، عليك أن تنظر لأحوال الآخرين خاصة المهمومين والمكروبين وأصحاب المصائب المختلفة، فمن تفكر في أحوال هؤلاء هان عليه كل ما هو فيه من مشاق.
6- أكثر من التسبيح في كل وقت، ولا يهمك كلام الناس: تأمل قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾[طه:130]
نجومٌ على طريق الرضا:
-تَمرُّ برجل فاقدٍ لبصره، تتعجَّب من ابتسامة تملأ وجْهَه، وعبارات الشُّكر والرضا يَلهج بها لسانُه، لا يشكو لأحدٍ ولا يَضْجَر من حاله، فتتعجَّب: كم منَّا مِن مُبصرٍ يشكو من الدنيا وهمومها وهو سليم يُبصر!
- تزور مريضًا لازَمَ السَّرير، لَم يَلزمه يومًا أو شهرًا، بل سنوات، لا يتحرَّك منه شيء سوى رأْسٍ يحرِّكه يمنة ويسرة، ولسانٍ ذاكرٍ شاكر، وتَشعر بانشراح صدْره وتقَبُّله لمرضِه، فتتعجَّب: كم منَّا معافًى يتحرَّك ويذهب، ويغدو ويتنقَّل في كلِّ مكان، ومع ذلك يَمقُت حاله، ويشكو ظروفه!
- عامل نظافة بسيط، تحت أشِعَّة الشمس الحارقة يُمارس عمله برضًا تامٍّ، ورَجل في سيَّارته المُكَيَّفة المُريحة، تَجده يشكو من الحرِّ وأشعة الشمس، فسبحان الله!
- موظف بسيط، يأخذ راتبًا قليلاً، ولكنَّه مُنظَّم في نَفَقاته، ويَستهلك حسب حاجته، شاكرٌ لله، ويتصدَّق من ماله؛ يَبتغي وجْه الله، وآخَرُ راتبُه أعلى، ومَنصبه أكبر، يشكو من النفقات واستهلاك الأبناء، ودائمًا الشكوى معه أينما ذهَب.
-لا تستغرب حين تسمع من قُطعت يداه ورجلاه مقعد الفراش يقول وهو يدعو ربه: © وعزتك لو أمرت الهوام فقسمتني مُضَغاً ما ازددت لك بتوفيقك إلا صبراً ».
-رجلٌ فاقدٌ للبصر والرجلين يقول بعد أن سمعه أحدهم وهو يحمد الله ويشكره: " والله لو أمر الله الأرض فخسفت بي، والجبال فدكتني، والبحار فأغرقتني ما ازددت له إلا شكراً لأنه أبقى لي لساني أذكره به واشكره".
-عمران بن حصين - رضي الله عنه - وأرضاه، هذا الصحابي الجليل الذي أُصيب بشللٍ أقعده تمامًا عن الحركة، ويستمر معه المرض مدة ثلاثين سنة، حتى أنَّهم نقبوا له في سريره حتى يقضى حاجته، فدخل عليه بعض الصحابة. . فلما رأوه بكوا، فنظر إليهم وقال:" أنتم تبكون، أما أنا فراضٍ. . أحبُّ ما أحبه الله، وأرضى بما ارتضاه الله، وأسعد بما اختاره الله، وأشهدكم أنِّي راضٍ".
- عروة بن الزبير، توفى ابنه وفاةً غاية في الصعوبة إذ دهسته الخيل بأقدامها، وقُطِعت قدم عروة في نفس يوم الوفاة، فاحتار الناس على أي شيءٍ يعزونه. . على فقد ابنه أم على قطع رجله؟ فدخلوا عليه، فقال: "اللهم لك الحمد، أعطيتني أربعة أعضاء. . أخذت واحدًا وتركت ثلاثة. . فلك الحمد؛ وكان لي سبعة أبناء. . أخذت واحدًا وأبقيت ستة. . فلك الحمد؛ لك الحمد على ما أعطيت، ولك الحمد على ما أخذت، أشهدكم أنِّى راضٍ عن ربي".
-لما قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة وقد كان كف بصره جاءه الناس يهرعون إليه كل واحد يسأله أن يدعو له فيدعو لهذا ولهذا وكان مجاب الدعوة قاله عبد الله بن السائب فأتيته وأنا غلام فتعرفت إليه فعرفني وقال أنت قارئ أهل مكة قلت نعم فذكر قصة قال في آخرها فقلت له يا عم أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك فرد الله عليك بصرك فتبسم وقال:" يا بني قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري". [ إحياء علوم الدين: 4/350].
أسئلة مهمة:
-هل الرضا يتعارض مع الدعاء؟ لا يتعارض؛ لأن الدعاء يُرضي الله و هو مما أمر الله به. .
-هل الإنسان إذا دعا أن يزيل الله عنه مصيبةً لا يكون راضياً؟ ! ! الجواب: لا. . ليس هكذا. . لأن الله قال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60].و قال: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ [السجدة:16] يدعون ربهم يريدون نعماً و دفعَ نقمٍ. والدعاء لا يتعارض مع الرضا. .
-هل الرضا يتنافى مع البكاء على الميّت؟ ! ! قال شيخ الإسلام: " البكاء على الميت على وجه الرحمة حسنٌ مستحبٌّ و ذلك لا ينافي الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه ".
-يجوز التألم من الأمراض، والأوجاع، والإخبار بما يجده الإنسان من ذلك، كالإخبار بما يجده من الجوع والفقر، من غير ضجر، أو جزع، أو سخط من ذلك كله، بل للتسلية والتصبر. [انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 13/212].
إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن الرضا، وأسأل الله أن أكون قد وفقت لإرسال رسائل إيمانية تجعلنا وإياك من أهل الرضا، والسعادة، فلا تنسى كاتب هذه السطور بدعوة خالصة.
فإن كان من صواب فمن الله، وإن من خطأ أو نسيان فمن نفسي والشيطان، ورحم الله من أهدى إليّ عيوبي .
اللهم إنا نسألك أنْفُسًا راضية بقضائك، مُحِبَّة للقائِك.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
|
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)